43- مصائب قوم عند قوم فوائد
الفصل 43 - مصائب قوم عند قوم فوائد - رواية أربعة في واحد |
"يعني دي أقوالك؟" انحنى أيمن بجزعه ليستند بذراعيه على المكتب أمامه وهو يضيق عينيه نحو دكتور مصطفى الجالس منهك القوى على الناحية الأخرى من المكتب
"أيوة."
"يعني أنت بتغير أقوالك وبتقول إنهم ما طلبوش منك مليون جنيه بس طلبوا تنجح الدفعة كلها وبكدا هيرجعولك مراتك؟"
أومأ فرجع أيمن بظهره إلى الكرسي ورفع يده يحك ذقنه بهدوء وسأل "دكتور مصطفى، قولي بصراحة .. أنت كنت ناوي تسقط مين السنة دي؟"
فكر مصطفى قليلًا وهو يرفع عينيه للسقف ثم عاد برأسه لأيمن وتمتم "بصراحة كتير، أصلهم دفعة قذرة وكذا واحد عمل معايا موقف مش كويس فكنت ناوي أسقط عدد كبير عشان يتربوا."
"آه .. طب ومين أكتر حد شاكك فيه، يعني مين من طلابك حاسس إنه عنده القدرة يعمل حاجة زي كدا؟"
بدون تفكير قد أجاب "قيس المرشدي، ده أكتر واحد في الدفعة بتاع مشاكل، ماشي يشاكل دبان وشه، أبوه رجل أعمال ومدلعه على الآخر وهو عيل بايظ أساسًا وساقط سنة قبل كدا واتخانق هو وأحمد كامل وهشام أمين وأدهم مقلاد في مكتبي وكسروه."
"طب ما اتفصلش من الكلية ليه؟"
"عشان أبوه تواصل مع العميد وجدد المكتب على حسابه ودفع مبلغ كمان تبرع للكلية."
"طب إشمعنى مش شاكك في أحمد كامل يعني أو هشام أمين أو أدهم مقلاد؟ ليه قيس المرشدي بالذات؟"
"عشان أحمد رغم إنه صايع لكنه ما يقدرش يعمل حاجة زي كدا، أحمد أهله ناس عادية وماعندوش حد يسنده، أما هشام أمين ده فده مثال للإلتزام والانضباط، مستحيل يعمل حاجة زي كدا، وأدهم مقلاد ده جده لواء في الداخلية يعني هو كمان مستحيل يشترك في جريمة زي دي."
"يعني أنت بتتهم قيس المرشدي بخطف مراتك؟"
"هو المشتبه الأول لو واحد من طلابي هو اللي عملها."
"وإيه اللي يخليني أصدقك؟ إيه الدليل على كلامك؟ أنا قولتلك إنك أنت المشتبه به الأول في قتل مراتك، لأنك عندك كذا دافع لقتلها، بنتك قالت أنكم كنتم متخانقين قبل ما تختفي وإنها طردتك من البيت، ليه ما تكونش أنت قتلتها عشان تورث كل حاجة لأن كل حاجة باسمها؟!"
"يا فندم طب لو قتلتها فين الجثة؟"
"أيوة بالظبط كدا فين الجثة يا دكتور مصطفى؟!"
"ماعرفش! أنا ما قتلتهاش، أنا كنت بايت في شقتي لما هي اختفت!!!"
"الباب ماكانش عليه أي أثار كسر، ده معناه إن الباب اتفتح بالمفتاح، حد غيرك أنت وبنتك معاه مفتاح شقتكم يا دكتور مصطفى؟!"
ابتلع مصطفى لعابه ونفى برأسه "لا."
"طب تفسر بإيه إن اللي دخل دخل باستخدام مفتاح؟"
"مش عارف!"
أخذ أيمن نفسًا عميقًا ثم أشار للكاتب بجانبه وقال "هذا وقد تم استجواب المشتبه به وقد أدلى بأقواله هذه، ويحجز خمسة أيام على ذمة التحقيق."
توسعت أعين مصطفى ونهض يصيح "خمسة أيام! ليه!! أنا ماعملتش حاجة!!!!"
ضرب أيمن بكفه على المكتب وصرح فيه بنبرة أخافته وجعلته يتراجع وينكمش على نفسه "ولا كلمة يا متهم.".
بعد خمسة ساعات من العمل كان أيمن قد تذكر أمر داليا فأخرج هاتفه ونظر لرقمها بتردد .. إن فكرة الزواج بأخرى يلف رأيه بقوة، لا ينفك يفكر في هذا الأمر كل يوم، ومنذ رأى داليا وهي مهندمة وسعيدة وعرف بأنها مطلقة وبدون أطفال قد شعر بأنها الخيار الأنسب له، مطلقة وبدون أطفال لذلك من السهل أن توافق على الزواج به وهو أصلًا متزوجًا، ومن السهل أن يبدأ معها صفحة جديدة من حياته.
طلب رقمها ووضع الهاتف على أذنه وهو يطرق بأصابعه على مكتبه، حتى أجابت داليا من الجهة الأخرى وبعد التعريف بنفسه -بكونه الضابط الذي يحقق في قضية الإخصاء- وبعد السؤال عن أحوالها، كان قد طلب منها أن تقابله بعد ساعة في كافيه في الدقي، وظنت الأخرى بأن الأمر يتعلق بالقضية فوافقت بدون تردد وأخبرته بأنها ستكون هناك في المعاد المحدد.
بعد أن أغلقت المكالمة معه نظرت لهاتفها بضيق ثم تفحصت جميع التطبيقات عليه ثم شعرت بالضيق لكون أحمد لم يحادثها، هكذا إذًا؟ إما تقبل به كزوج وإما ينقطع عنها كليًا؟ تبًا له، هي لا تعلم لماذا حتى تشتاق له كل ذلك الحد!
ألقت بهاتفها بعيدًا وفتحت دولابها ووقفت تنتقي شيئًا لترتديه.
في مكانٍ آخر فرش قيس سجادة الصلاة ووقف يتأملها ثم رفع عينيه إلى السماء، ربما لم يكن يصلي قبلًا لكنه منذ خطب ليلى وهو يحاول على الأقل، لم يكن يريد منها أن تعرف بأنه لا يصلي بعد الزواج، لذا فقد بدأ يعود نفسه على الصلاة، لكنه في كل مرة كان يؤديها بطريقة روتينية، لا يشعر بأي شيء، مجرد حركات يؤديها دون أدنى تركيز، أما الآن فهو يقف وكله أمل بأن يستمع الله له، يستشعر وجوده في حضرته كما لم يستشعره قط. رفع يديه بالأذان ثم وضعهما على صدره وركز عينيه على موضع السجود، أنهى الفاتحة وسورة قصيرة ثم ركع ثم كبر ثم سجد، وحينها بدا وكأن جميع الكلمات التي جهزها في عقله ليخبر بها الله قد طارت، لا يدري ماذا يقول حقًا، لكنه بدأ بالبكاء كالطفل الصغير بدون إرادة منه.
"يا رب، اغفرلي، أنا آسف، عارف إني أستاهل بس أنا بحبها،" تمتم بنبرة متحشرجة وأكمل بكاءه الذي تحول إلى شهقات مسموعة لكنه أجبر نفسه على النهوض ومواصلة الصلاة، وهذا لم يمنع انهياره في البكاء مجددًا كلما حان دور السجود حتى انتهى من صلاته وعينيه قد تورمت من أثر البكاء.
طرقت الخادمة -العجوز أم كريم- الباب وفتحت بعد قليل لتجده على سجادة الصلاة، استغربت قليلًا واقتربت منه لتربت على كتفه "قيس بيه."
رفع عينيه البائسة لها فأنذهلت الأخرى عندما وجدته يبكي، وبقلق الجدات قد جلست أمامه "مالك يا حبيبي؟ فيه إيه؟"
"مافيش،" نطق بغصة وهو يمسح عينيه بظهر يداه محاولًا السيطرة على نفسه، لكنها اقتربت منه لتربت عليه من جديد"لا فيه، قولي مين ضايقك بس؟"
ابتلع لعابه وأخفض رأسه وهو يتمتم "ليلى سابتني."
سكتت أم كريم لوهلة بصدمة، خطيبته قد تركته؟ لماذا؟
رفع قيس عينيه لها وتساءل بطريقة طفولية "هو أنا وحش أوي يا أم كريم؟ يعني للدرجة دي ماحدش عايزني ولا بيحبني؟ ماشي أنا عارف إني كنت برخم عليكِ وبخضك في المطبخ لما بكون زهقان بس والله أنا بكون قصدي أهزر معاكِ."
ابتسمت الأخرى واقتربت لتشده إلى حضنها "يا عبيط، ده أنا بحبك وبحب هزارك معايا عشان أنت أطيب واحد في البيت ده، ربنا يعلم أني بعاملك زي ولاد ولادي .. وبعدين ليلى سابتك ليه يعني إن شاء الله؟"
أخفض رأسه بخزي وهمس بنبرة خافتة "عرفت إني كنت صايع، بس والله أنا اتغيرت، طب بزمتك يا أم كريم، شوفتيني بكلم أي واحدة زي ما كنت بعمل؟"
نفت برأسها "لا والله ده حتى البيه الكبير بقى مبسوط منك عشان بعد ما خطبتها بقيت كويس وبطلت تعمل مشاكل ونزلت تشتغل معاه زي ما هو كان عايز."
"طب ادعيلي بالله عليكِ ليلى ترجعلي، والنبي يا أم كريم أنتِ عجوزة وطيبة وربنا هيقبل منك."
رفعت يديها للسماء ودعت له "ربنا يهديكِ يا ليلى وترجعيله، قادر يا كريم يا رب.".
كانت داليا قد وصلت إلى وجهتها فوجدت أيمن بالفعل يجلس على طاولة هناك وفور رؤيتها اعتدل في جلسته وابتسم مرحبًا بها .. ثم مر بعض الوقت وهما يتحدثان لكن حينها بدأت داليا تستغرب ما يحدث لأنه لم يأتي بسيرة القضية أبدًا! إذًا لماذا طلب رؤيتها؟
"هو حضرتك جايبني عشان المحضر ولا فيه حاجة تانية؟" تساءلت أثناء تعليقها لعينيها على عينيه فابتسم ورجع بظهره إلى الكرسي ثم أجاب "حابب أتعرف عليكِ."
نظرت ليده التي يقبع بها خاتم الزواج ثم رفعت عينيها لوجهه مجددًا "تتعرف عليا من ناحية إيه بالظبط؟"
لاحظ نظرتها تلك وبحركة تلقائية لمس خاتم زواجه وابتسم ابتسامة بدت حزينة وهو ينظر للأسفل ثم رفع رأسه نحوها "أنتِ شخص مباشر جدًا يا داليا، ماكنتش متوقع إنك هتسأليني مباشرةً كدا وأنا مابحبش أسبق الأحداث."
"ما هو لازم أعرف عشان كل شيء يبقى على نور."
"باختصار أنا معجب بيكِ."
"بس أنت متجوز!"
"كانت جوازة غصب عني صدقيني، أنا ما اختارتش الإنسانة دي، أبويا أجبرني أتجوزها وإلا كان هيحرمني من الورث، أنا مابحبهاش وأنا وهي عمرنا ما أتكلمنا، وهي أصلًا مش عاجباني."
بدأ الموضوع يحوذ على اهتمام داليا التي انتبهت له جيدًا واستفهمت "طب هي ليه مش عاجباك؟"
"هي هادية وعلى طول ساكتة ومابتقولش غير حاضر، مابتهتمش بنفسها ومابتحاولش تعمل أي حاجة تعجبني، كل اللي هي مهتمة بيه البيت والأكل والغسيل والتنضيف وبس، وكأن وجودي كرجل أصلًا بالنسبالها مش مهم."
"ممكن أقولك رأيي وتسمعني؟"
نظر لها بصمت وأعطاها إيماءة بسيطة فأكملت "في أول كلامك قولت أنكم أصلًا ما بتتكلموش، يعني مافيش تواصل بينكم! إزاي هي هتعرف أنت عايز إيه وأنتم مابتتكلموش؟ إزاي طيب أنت هتحبها وأنت أصلا ما تعرفش عنها حاجة؟ من كلامك عنها واضح إنها ست بيت كويسة وطيبة وبتسمع الكلام، ليه ما تستغلش الموضوع ده في إنك تصلح علاقتك بيها؟"
"قصدك إيه؟"
"قصدي حاول تتكلم معاها، مش قصدي تروح تقولها أنتِ مش عاجباني ولازم تعملي كذا وكذا وكذا، لا .. اعتبرها صاحبتك، هزر معاها، قولها تسلم إيدك على الأكل، اشتريلها الهدوم اللي أنت عايزها، وديها كوافير .. مافيش ست وحشة صدقني، بس فيه ست مش فارق معاها، أنت شوفتني أول مرة كان شكلي عامل إزاي وتاني مرة كان شكلي عامل إزاي؟"
أومأ فأكملت "الفرق الوحيد بين أول مرة وتاني مرة كان أول مرة كنت مكتئبة وهاين عليا أقوم أرمي نفسي من الشباك، بس تاني مرة كنت مبسوطة."
"بس افرضي ما اتصلحتش؟"
"صدقني الجهد اللي هتبذله مع مراتك أقل بكتير من الجهد اللي هتبذله في علاقة أو جوازة تانية، حتى الفلوس اللي هتشتري بيها شقة وعفش وشبكة لو صرفت نصهم على مراتك هتلاقيها بقت واحدة جديدة."
حك عنقه وابتسم ثم نظر للأسفل مفكرًا وبعدها رفع رأسه "طب قوليلي أعمل إيه؟"
"أول حاجة لازم تلاقي بينكم نشاط مشترك، تعملوه يوميًا مع بعض، حتى لو هتنزلوا تتمشوا في الشارع ربع ساعة وتطلعوا شقتكم تاني."
"بس أنا مش عارف هي بتحب إيه!"
"خلاص يبقى دي أول حاجة هتعملها، تشوف حاجة أنت وهي بتحبوها وتبدأ تشاركها فيها، صدقني الكلام هيجيب بعضه وأنتوا بتعملوا الحاجة دي، وساعتها هتبدأ تتعرف عليها وهي تتعرف عليك، وبعد التعارف والألفة ممكن ساعتها تقولها بطريقة غير مباشرة على الحاجات اللي أنت بتحبها."
"هو أنتِ شغالة مصلحة إجتماعية؟" ضحك فرفعت كتفيها وتمتمت "لا، بس عندي معلومات كافية تخليني أشتغل مصلحة إجتماعية."
أكملا الحديث لبعض الوقت حتى أستأذنت داليا بالرحيل وأستأذن الآخر بمحادثتها إذا احتاج للسؤال عن أي شيء، ثم رحل وهو ينوي فعلا تجربة ما قد قالته داليا.
كان قيس قد بدل ملابسه وذهب إلى شبرا ليقف أمام منزل هشام، ينظر إلى شرفتهم، ينتظر أن تظهر في أية لحظة، لكنه وقف ووقف ولم تظهر ليلى فأتخذ قراره بالصعود ليسأل هشام عن أي شيء عسى أن يراها صدفة.
وصل إلى باب منزلهم ورفع يده بتردد يضغط على الجرس، كان ينتظر هشام ويجهز مبرر مناسب في رأسه ليخبره به، لكن من فتح هو أمين، حماه السابق، والذي تفاجئ بقيس لكنه ابتسم مرحبًا به
"إزيك يا عمو؟"
"بخير الحمد لله، اتفضل،" أفسح له الطريق فدخل بتردد يعلق عينيه على غرفة ليلى المغلقة، لكن أمين قاده إلى غرفة الضيوف وأجلسه دون سؤالًا عن سبب مجيئه ثم نادى على زوجته لتحضر العصير بدون سكر كما يفضله قيس
"عمي، أنا عايز أرجع لليلى،" قال وهو يفرك كفيه معًا بدون راحة فابتسم أمين بحزن وحك ذقنه "والله يا ابني حاولنا معاها أنا وأمها وهي راكبة دماغها."
"طب طب أنا عايز أقعد معاها، خليني أكلمها، بالله عليك يا عمي، أنا كل ما بتصل بيها مش بترد وعملتلي بلوك من كل حتة .. والله أنا أتغيرت من ساعة ما شوفتها، والله ما قربت من أي واحدة غيرها، حتى القذرة هند دي كانت بتحاول تكلمني وأنا مارديتش عليها وممكن أوريها الرسايل، طب أعمل إيه؟" أردف بطريقة مندفعة وكم بدا يائسًا وهو يترجى أمين الذي حزنت ملامحه على حاله ونهض يجيب "طب ثواني، أنا هحاول أقنعها."
رحل أمين وجلس قيس يهز ساقه بدون راحة وهو يقضم جلد شفتيه حتى شعر بنفسه يجرح شفته السفلى بدون شعور، رفع رأسه للسقف وبدأ يدعي بداخله بأن توافق ليلى على إعطائه فرصة لكن من ظهر أمامه هو أمين يحمل خيبة الأمل على وجهه، استشف قيس أنها رفضت مجددًا فنهض وأومأ "تمام يا عمي، أنا بعتذر إني جيت .."
"استنى بس يا ابني، طب اشرب العصير!" حاول أمين الإمساك به لكنه أسرع للخارج هاربًا من المنزل بأكمله، خرج إلى الشارع وكان في طريقه إلى سيارته لكنه توقف فجأة ورفع عينيه نحو شرفتها، أصطدمت عينيه بعسليتيها، كانت عينيها حمراء باكية هي الأخرى، لكنها مسحتها بسرعة ودخلت ثم أغلقت الستارة، ابتلع الغصة في حلقه وترجل ببطء نحو سيارته .. إذا كانت تبكي وحزينة لماذا تفعل بهما هذا؟ لماذا تصر على موقفها إذا كانت تبكي؟ هو لا يفهم.
جلست ليلى على سريرها تكمل بكاءها، لا تعرف ماذا تفعل حقًا؟ قلبها يخبرها بأنه يحبه ويريده لكن عقلها يأبى الانصياع ليتركانها في فوضى عارمة.
في الغرفة المجاورة لها كان هشام يضع الهاتف على أذنه ويستمع بضيق للتي تتحدث من الجهة الأخرى، ودخان تخيلي بدأ يخرج من أنفه وأذنيه ولم يلبث أن فقد أعصابه وصرخ
"يا سامية حلي عن سمايا بقى، قولتلك مش بتاع الكلام ده،ه أنا عمري ما مشيت مع واحدة حتى .. بتحبيني إيه! فكك مني وما تتصليش بيا تاني، أنا علملك بلوكات من خمس أرقام لحد دلوقتي."
ثم أغلقه ورماه أمامه على المكتب والتقط المصحف من جديد وتمتم "أستغفر الله العظيم."
كان سيفتحه ويقرأ منه مرة أخرى، لكنه توقف ونظر لهاتفه، لقد كان قد اعتاد على أن يحادث رحمة في ذلك الوقت ..
ابتلع لعابه والتقط هاتفه يبحث في المكالمات لكن آخر مكالمة منها كانت منذ مدة طويلة، فتح الفيسبوك ليتصفح صفحتها الشخصية وفوجئ بها قد حظرته، قطب جبينه بغضب وانتقل لتطبيق الواتساب فوجدها قد حظرته هناك أيضًا!
هكذا إذًا؟ تحظره ولا ترد على مكالماته؟ حسنًا ..
رمى بهاتفه وأمسك المصحف من جديد وفتحه، قرأ منه آيتان ثم توقف وأغلقه وأمسك الهاتف من جديد .. هل كانت جدية بشأن إلغاء قراءة الفاتحة مع والدها؟! لقد ظن أنها تهدده فقط!
سارع بالاتصال بوالدها وهو يقضم جلد شفتيه بتوتر حتى أجابه أبوها "إزيك يا هشام يا ابني؟"
"بخير يا عمي، إزيك وإزي طنط؟"
"كلنا بخير."
"عمي هي رحمة مش بترد عليا ليه؟"
جاءه الصمت لوهلة ثم تكلم "اسمع يا هشام، أنت عارف إنك في معزة ابني اللي ما خلفتوش وأنا عارف إنك رجل ومحترم ومستقيم ومالكش في أي حاجة شمال، بس يا ابني الجواز قسمة ونصيب والبنت مش موافقة ومصممة على قرارها."
شعر بالدماء تتصلب في عروقه وتكلم باندفاع "ليه بس يا عمي كدا؟ ده أنا شاريها ودخلت البيت من بابه!"
"والله يا ابني عارف، بس هي بتقول إن طريقتك في الكلام زي الزفت وإنك دبش ومابتعرفش تتعامل بذوق."
"طب بالله عليك يا عمي، عمرك شوفتني قليت أدبي على حد ولا عملت مشكلة مع حد؟ أنا بس عصبي شوية وبهدى بسرعة، مافيش حد كله مميزات وأنا على الأقل هصونها وعمري ما هبص عليها ولا العب بديلي كدا ولا كدا، ومتحمل مسئولية نفسي وبإذن الله مستقبلي كويس، هي متضايقة مني عشان مابعرفش أذوق الكلام، هتبقى مبسوطة لو كنت بذوق الكلام بس صايع يعني؟"
"يا ابني لو عليا أنا موافق وأجوزهالك بكرة، بس هي خلاص ركبت دماغها ومش طايقة حد يجيبلها سيرتك حتى، اعتذر لأبوك وقوله كل شيء قسمة ونصيب."
أغلق أبوها الباب في وجهه فصمت وأطرق رأسه للأسفل لفترة ثم أنهى الحوار معه وأغلق الهاتف ليرميه بعيدًا بغضب، ويرفع يده ليقرض إظفر إبهامه أثناء هزه لساقه بدون راحة، لماذا الفتيات تفضل الرجال السيئون ويحبونهم لكنهم يرفضون المحترم لأنه محترم ولم يسبق له أن تحدث مع فتاة من قبل ولا يعرف كيف يتكلم ويتصرف؟
لماذا يفضلون أحمد وقيس رغم سوئاتهما، لكنهم يرفضون شخصًا مثله؟
اشتعل رأسه من الغضب وجلس يكمل قرضه لأظافر يده بغيظ، الدماء تغلي في عروقه ولا يصدق حقًا أن رحمة تخلت عنه بتلك السهولة! ربما هو لا يستطيع انتقاء كلماته لكنه متأكدًا بأنها لن تجد شخصًا سيحترمها في عدم وجودها مثله، وعلى الأقل لن يخون ويبصبص للفتيات في الشوارع؛ فهو أبدًا لم يرفع عينيه في أنثى، لكن هؤلاء هن الإناث، يُلقين بالمحترم بعيدًا لأنه لا يستطيع أكل عقولهن بكلامه المنمق وغزله الرخيص.
وصل أيمن إلى باب منزله، وحرص على رسم ابتسامة قبل أن يدخل، لن يدخل بتلك التكشيرة التي تعلو وجهه مجددًا.
فتح الباب وترجل للداخل فوجد زوجته وهي إمرأة في الثامنة والعشرون تستقبله بجلابية منزلية ورأس ملفوف بقماشة، كان وجهه سيتجهم من جديد لكنه أجبر نفسه على عدم فعل ذلك وابتسم لها "إزيك يا دعاء؟"
"الحمد لله، تآكل؟ أنا مجهزالك الأكل."
أومأ وترجل نحو غرفته ليستحم ويبدل ملابسه ثم هندم من نفسه وتحرك نحو السفرة فوجد عليها كل ما لذ وطاب، لأول مرة ينتبه لكونها ست بيت ماهرة لتلك الدرجة، تذكر حديث داليا بأن داليا نفسها فاشلة في أعمال المنزل
"دعاء، تعالي كلي معايا،" نادى عليها فوجدها أمامه تتعلل "لا، أصلي مش جايلي نفس."
"مش مهم، اقعدي معايا افتحي نفسي،" أردف وشدها من يدها فجلست باستغراب تراقبه جيدًا وهو يتناول الطعام بابتسامة لم تعرف طريقها لوجهه منذ فترة طويلة
"هو فيه حاجة؟" تساءلت فأومأ "آه فيه."
"خير كفى الله الشر؟"
"الأكل جامد جدًا، تسلم إيدك،" تمتم بنبرة مازحة ولأول مرة تبتسم في وجهه تلك الابتسامة الخجولة وحمحمت "بجد؟ أنا افتكرت أكلي مش بيعجبك!"
"يا خبر! أكلك ما يعجبنيش؟ طب والله أنا بقيت مش بستطعم إلا أكلك يا دعاء، حتى بفضل طول اليوم برا من غير أكل لحد ما أجي وأكل من إيدك."
"طب اصبر أنا عاملة رز بلبن هيعجبك هقوم أجيبهولك،" نهضت بفرحة لتهرول نحو المطبخ فضحك وأبقى عينيه على الطريق الذي دخلت منه ولم تلبث أن عادت بسرعة وهي تحمل طبق الرز باللبن وملعقة صغيرة لتضعهما أمامه
"لا، بقولك إيه، هو أنتِ مش زهقانة؟" تمتم فقطبت جبينها وصمتت، كانت بالفعل تشعر بالضيق من جلوسها بمفردها طوال اليوم، وجهها في وجه الحائط ولا أحد يحادثها ولا هي تحادث أحدًا
"إيه رأيك ننزل نحلي برا أنا وأنتِ، أنا زهقان أصلي،" قال وهو يراقب ملامح وجهها المتفاجأة وكأن أحدهم قد صفعها على وجهها، يبدو أن دعاء لا تصدق أنه يحادثها حقًا ويريد الخروج معها!
"ماشي،" قالت بابتسامة واسعة فأكمل "طب قومي خدي دش كدا وغيري هدومك، واقعلي الجلابية دي والبسي لبس خروج."
هزت رأسها بحسنًا ونهضت بسرعة كالأطفال نحو غرفتهما ووقفت بحيرة تنظر إلى خزانة ملابسها، لم تخرج منذ مدة طويلة حقًا ولا تعرف ماذا ترتدي؟ لكنها حرصت على ارتداء شيئًا لطيفًا تكون من تنورة سوداء وسترة صوفية رمادية اللون وحجاب أبيض ثم نظرت لعلبة مساحيق التجميل وبتردد أخذت ملمع شفاه باللون الوردي الغامق لتضع منه القليل على شفتيها ثم طالعت نفسها في المرآة، الابتسامة لا تنزاح عن وجهها، هي لا تصدق حقًا بأنه يريد الخروج معها؛ فمنذ زواجهما وهو يتعامل معها بطريقة جافة ويتجنب الحديث معها بقدر المستطاع، تعرف أنه تزوجها إجبارًا لأجل الميراث لكنها كانت مجبرة مثله بالضبط؛ فهي لم تستطع مخالفة كلام عمها الذي قرر تزويجها لابنه الأكبر، وبالرغم من هذا كانت تمني نفسها بأنه سيحبها مع العشرة وهذا لم يحدث قط.
"دعاء، خلصتِ؟" صاح عليها أيمن من الخارج فاستفاقت من تفكيرها هذا والتقطت حقيبة سوداء وحذاء أسود لترتديهم بسرعة وتخرج له لتقول بحماس طفولي "خلصت آه."
"حلو لون الروج ده، لايق في وشك، طب ما تبقي تحطي في البيت يا ستي!" تمتم وهو يسحب يدها ليضعها في يده فتوقفت أنفاس الأخرى ونظرت له بذهول وبابتسامة واسعة وأومأت "حاضر، هحط في البيت لو عايز."
كان في صدمة هو الآخر عندما شعر بأن الأمر لم يكن يتطلب كل هذه المعاناة! يكفيه أن يعاملها بأسلوبٍ لطيف والثناء عليها ببعض الكلمات والابتسامة في وجهها وها هي دعاء توافق على ما يقترحه بسهولة أيضًا.
كانا قد ركبا سيارته وأدارها أيمن ثم حرك رأسه نحوها "ها؟ تروحي تحلي فين؟"
"فيه محل آيس كريم في الزمالك كنت بروحه مع صاحبتي قبل الجواز، ممكن نروحه؟"
"إيه ده أنتِ كنتِ بتخرجي مع صاحباتك وكدا؟" تفاجئ وهو يدير سيارته ليتحرك بها فضحكت وأومأت
"بس اللي أعرفه إن عمي ما كانش بيوافق يخرج أي واحدة منكم، إزاي بقى كنتِ بتخرجي؟" تساءل فقضمت شفتيها ثم حمحمت "بعد الجامعة وكدا من غير ما هو يعرف وساعات كنت بخترع أي حجة."
ضحك ونظر لها بدون تصديق! لم يكن يظن أن دعاء يمكنها أن تفعل تلك الفعلة حقًا!
"فين عمي دلوقتي يسمع الكلام ده، كان علقك من رجلك،" ضحك فضحكت هي الأخرى وتذمرت "ما أنت حابسني دلوقتي بداله."
"أنتِ اللي ما بتطلبيش! لو قولتيلي نازلة أخرج مع صاحبتي نعمل شوبينج هنزلك عادي،" رفع كتفيه فتوسعت عينيها "بجد؟"
"آه بجد، وهديكِ فلوس كمان تنزلي تروحي الكوافير تعملي شعرك وتشتري هدوم جديدة بس أنتِ ما بتطلبيش، حاشرة نفسك في المطبخ وبس."
"يعني لو قولتلك أنزل الكوافير مع صاحبتي هتوافق عادي؟"
"دعاء، أنا مش زي عمي الله يرحمه، ومش زي بابا، فآه هنزلك عادي."
ابتسمت بتوسع ورجعت بظهرها إلى كرسي السيارة ثم حركت رأسها له وقالت بتردد"أنا ماكنتش متخيلة إنك ممكن توافق، فكرتك زي بابا وعمي وهترفض تخرجني."
ابتسم ونظر له نظرة خاطفة أثناء قيادته لسيارته وتمتم "يمكن عشان أصلًا أنا وأنتِ مانعرفش بعض كويس؟ تعرفي إن دي أول مرة نتكلم فيها وندردش وكدا؟"
أومأت بضيق ثم ابتلعت لعابها وقالت بغصة "أنا كنت حاساك بتكرهني وعشان كدا مش عايز تكلمني فكنت بخاف أكلمك أو أقرب منك وكنت بحاول ما أضايقكش."
شعر بالضيق من نفسه وأشاح بوجهه بعيدًا ليردف "أكيد لا يا دعاء، بالعكس أنا عايزك تكلميني وأرجع من الشغل ألاقيكِ لابسة لبس حلو وعاملة شعرك بدل الجلابية وأمطة الراس اللي عاملاهم في البيت دول! أنا طول اليوم مُحاط بعساكر وظباط ومجرمين .. بأبقى عايز أرجع البيت ألاقي حاجة مختلفة."
حزنت ملامح الأخرى لكونها تعرف بأن كلامه صحيح، هو يأتي كل يوم ليجدها بتلك الحالة ثم أومأت له وصمتت بعد أن شعرت بأنها ربما يجب أن تغير طريقتها هي الأخرى
"ها، هتغيري الجلابية والأمطة؟" ضحك وهو ينظر لها بطرف عينيه فضحك وأومأت ثم نظرت للأسفل بخجل.
في فجر اليوم التالي استيقظ أدهم على كابوسٍ مزعج حيث يتم القبض عليه هو والثلاثة الآخرون بتهمة خطف زوجة الدكتور، نهض يتصبب عرقًا وترجل من غرفته إلى المطبخ بتكاسل ليحضر زجاجة ماء ساقعة من الثلاجة، وجد أميرة بالداخل تطبخ بعص البيض المقلي على النار لكنها فزعت فور رؤيته
"سي أدهم، إيه اللي مصحيك؟"
"عايز أشرب!" تمتم باستغراب من فزعها وخوفها الجلي في عينيها ثم تحرك نحو الثلاجة وفتحها ثم التقط زجاجة ووقف يشرب وهو ينظر لها بطرف عينيه حيث تراقبه هي بتوتر
أنزل الزجاجة عن فمه وأعطاها نظرة حانقة "مالك يا أميرة! أنتِ بتشوفيني كأنك شوفتِ عفريت ليه!"
"العفو يا سي أدهم أكيد أنت بيتهيألك، أنا عادي خالص أهو!"
ابتسم ابتسامة جانبية ورمقها بصمت لوهلة حتى خجلت وأخفضت عينيها نحو الطاسة فاقترب ليستند على الرخامة بجانبها "طب أنا جعان."
"تآكل بيض وجبنة؟"
"آكل أي حاجة من إيدك، كل اللي تعمليه حلو،" تمتم بنبرة منخفضة ورأى وجنتيها تتوردان ويديها ترتعش على الطاسة وهو قد ضحك بداخله على لطافتها تلك ثم قرر تركها والجلوس بالخارج كي لا يخيفها أو يوترها أكثر.
جلس في شرفته ينظر نحو السماء التي بدأت تتحول إلى اللون الأزرق الفاتح وتأملها قليلًا، لا يعرف ما الذي يشعر به حقًا، إنه يشعر بتآلف نحو خضراء الأعين التي بالداخل، وفي نفس الوقت معجبًا بجميلة بنشاطها وعنفوانها، أما سارة فهي أول فتاة نبض لها قلبه .. كان من الصعب الإختيار حقًا .. يريد ثلاثتهم مجتمعات.
حل الصباح عليهم ورافقته في الشرفة زوجة دكتور مصطفى التي تبدو في حالة نفسية رائعة حقًا منذ قدومها إلى هنا، فبدت مشرقة وهادئة النفس
"طنط، هستأذن حضرتك إني أسيبك بكرة عشان رايح فرح أخو صاحبي، أحمد اللي حضرتك شوفتيه."
"براحتك يا حبيبي،" أجابته وهي ترتشف بهدوء من فنجان الشاي الذي أعدته لها أميرة
"طنط هو لو اتقبض علينا حضرتك هتقولي للبوليس إيه؟" تساءل وهو يبتلع لعابه بخوف فابتسمت الأخرى ومازحته "معقولة هحبس جوز بنتي يعني! هقولهم أنكم ماخطفتونيش وإني جيت هنا عشان أربي مصطفى ويعرف قيمتي."
تنفس الصعداء وابتسم ثم أومأ لها ونظر بعيدًا.
[فرح مراد بكرة،] أرسل أحمد بتلك الرسالة إلى داليا، وظهرت العلامة الزرقاء بجانب رسالته فورًا لتعلمه بأنها قد رأتها، ثم ظهرت الثلاثة نقاط يتحركن ليعلموه أيضًا بأنها تكتب الآن
[ألف مبروك، عقبالك يا أحمد.]
جائته رسالتها التي جعلته يستشيط غضبًا حقًا لكنه سيطر على نفسه وأرسل لها [الله يبارك فيكِ، أنا كنت مكلمك عشان أعزمك يعني تغيري جو شوية بدل الحبسة بتاعة البيت، أدهم هيبقى هناك كمان.]
[مش عارفة، أنت عايزني آجي؟!]
[آه عايزك تيجي، هبعتلك دعوة ليكِ مع أدهم، مستنيكِ.]
أنهى تلك المحادثة وألقى بالهاتف جانبًا ووبخ نفسه بشدة على ما فعل، ما باله حقًا؟ لقد أخبرته الفتاة بكل وضوح بأنها لا تريد الزواج، لكنها أخبرته أيضًا بأنها تحبه!
تبًا لكِ داليا وتبًا للإشارات المتداخلة التي تعطيها، هي متناقضة حتى في مشاعرها، أحبك لكنني لن أتزوجك! وهو كالأبله لا يركز سوى على كلمة (أحبك.) التي سمعها من فمها.
رفع يده ليدخلها في شعره ثم أخرج صورتها من هاتفه وحدق في وجهها قليلًا، لماذا يقع لها أكثر فأكثر كلما ترفضه وتبعده عنها بتلك الطريقة؟ أهي تعويذة تلقي بها عليه؟
قلبه الغبي لا ينفك يرغب بإصلاح قلبها المُهشم، وكأنه يحبها ويتمسك بها أكثر كلما شعر بضعفها وحاجتها إليه، هي تحتاج إليه ليصلح ما تم تدميره من قبل، لكن المهمة شاقة كثيرًا لأنها لا تدعه يفعل هذا .. وهنا يأتي دور عقله الغبي هو الآخر ليصمم على تنفيذ ما يريد فلا يستطيع إخراجها من عقله!
"أحمد، تعالى شوف البدلة كدا،" صاح مراد عليه من الخارج فترك هاتفه مفتوحًا على صورتها ونهض ليخرج إلى أخيه الذي يقف بابتسامة تشق وجهه وهو يرتدي بذلة العُرس التي سيرتديها غدًا
"حلوة؟" تساءل بحماس وهو يعدل من قميصه الأبيض فعانقه أحمد سريعًا وربت على ظهره "هتاكل منك حتة، متأكد إنك عايز تتجوز سوكا العبيطة دي؟ ممكن نشوفلك حاجة أحسن."
"والا، لم نفسك قولتلك ماتقولش عليها كدا،" زمجر مراد في وجهه فضحك وسخر "خلاص ياعم، حرمك المصون .. حلو كدا؟"
ابتسم مراد بتوسع من جديد وأومأ "يعني البدلة حلوة؟"
"يا اسطا البدلة واللي جوا البدلة حلوين، مبروك،" ضحك ثم ضرب كفه بكف مراد وحينها ظهرت أمه لتزغرد عاليًا واقتربت لتحتضن ابنها الكبير وتطبع قبلة قوية على وجنته
"أنا مش مصدقة نفسي، ابني حبيبي هيتجوز بكرة! حاسة إن قلبي هيقف من الفرحة."
ضحك مراد وطبع قبلة على جبهتها في حين مازحها أحمد "أهو هيتاخد منك يا حجوجة، وهتيجي واحدة غيرك يحضنها."
قطبت جبينها ونظرت له بغيظ "أنا موافقة، اخرج أنت منها يا حريقة."
ضحك ورمقها بدون تصديق ثم ضرب بكفيه معًا "هو مراد ده عاملك عمل يعني؟ قوليلي عشان أروح أعملك نفس العمل وتحبيني كدا!"
ضحك مراد هو الآخر وأحتضن أمه ثم نظر لأحمد بتشفي وأعطاه نظرة لئيمة وكأنه يغيظه فأحتضنته أمه بالمقابل في وسط مراقبة بأعين متوسعة من أحمد
"ماشي، بصي هو عمومًا هيتجوز وهيسيبك وأنا اللي قاعد في وشك وشكلنا مطولين مع بعض، ابقي شوفي مين هيحضنك."
نفى مراد برأسه وأردف "هي سنة وهصفي شغلي كله هناك وهاجي أقعد هنا وهعدي عليها كل يوم عشان أحضنها وأغيظك."
توسعت أعين والدته وابتعدت عنه لتنظر له بصدمة وأمل في آنٍ واحد "بجد؟ هتعقد هنا على طول بجد!؟"
أومأ مراد ثم قبل رأسها دون أن يعطيها تفاصيلًا أكثر
"يا اسطا يعني هتكوش على كل الستات! هتحضن مراتك وتيجي تحضن أمي!"
"أنا مش أمك، أنا لقيتك جنب باب الجامع،" قالت أمه فأومأ بتوعد "ماشي، قولتلك هيتجوز ومش هيتبقالك غيري يا بطة، مسيرك يا ملوخية تيجي تحت المخرطة."
ظهر أبوهما يحرك عجلات كرسيه المتحرك وصاح على أحمد "أحمد، تعالى عايزك."
تحرك أحمد نحوه بابتسامة "إيه يا كيمو، ما تيجي نشوفلك عروسة بدل الست دي."
سمع صياح والدته عليه من خلف ظهره "ماشي يا كلب."
ضحك وتحرك مع والده حتى دخلا إلى الشرفة وجلس على الكرسي مبتسمًا، نظر له والده وأردف "عقبالك."
تلاشت ابتسامته وابتلع الغصة في حلقه ثم تمتم "إن شاء الله."
"عزمت أصحابك وكدا؟"
أومأ فغمزه والده "عزمت داليا؟"
قلب عينيه بضحكة محرجة وأومأ "عزمتها بس مش عارف هتيجي ولا لا."
"بس أنا حاسس إنها هتيجي، هي مش قالت إنها بتحبك؟"
ابتسم وحك عنقه "قالت إنها (بتظن) إنها بتحبني!"
"بابا، هو تفتكر هي عندها حق فعلًا والمفروض نبعد عشان مصلحتي؟"
"لو بالظروف اللي قولتلي عليها دي فأيوة هي بتسمع لعقلها أكتر وشافت إنها هتظلمك، بس هي مسقطة كذا حاجة، منهم إنها لازم تتعالج أصلًا عشان نفسها، وما دام بتحبك يبقى فرصة إنها تتخطى حاجز خوفها معاك أكبر من أي حد تاني."
"صح! وبعدين حضنتني وما جالهاش نوبة هلع ولا حاجة، هي ماخادتش بالها بس أنا كنت مركز معاها عشان أعرف هيحصل إيه، كانت هادية عادي!"
"حضنتها يا قليل الرباية؟ والا! أنت أمك عندها حق، إحنا لقيناك جنب باب الجامع فعلًا،" زمجر والده في وجهه فضحك وتذمر "يا كيمو ده كان اختبار، تست."
"تست يا روح أمك؟ أنت هتقولي على تستاتك ما أنا عارفك."
"على الأقل عندي خبرة، الدور والباقي على الوكسة الكبيرة اللي فرحه بكرة ده، روح اقعد معاه كدا وشوفه هيعرف يتصرف ولا هيقعد يشرحلها الشغل بتاعه ويفضحنا، ما هو ما وراهوش إلا الشغل."
خلع والده حذاءه فهرول أحمد من أمامه أثناء صياح والده عليه "والله عيل سافل وأنا لقيتك جنب باب جامع فعلًا."
ضحك أحمد عاليًا ووقف يصيح "طب أقعد معاه أنا وأديه من خبرتي ولا إيه؟"
ضحك والده وصاح "روح شوفه كدا، يا رب يديلك بالشبشب هو كمان."
حمحم وترجل نحو غرفة مراد ثم طرق عليه فسمح له مراد بالدخول، فتح الباب وحاول عدم الضحك فوضع مراد هاتفه من يده ونظر له بتساؤل عما يريد
"أبوك باعتني أديلك من خبرتي،" ضحك فرمقه مراد بدون فهم "خبرتك في إيه؟"
"بص من الآخر كدا أنت عارف هتعمل إيه بكرة ولا محتاج إرشادات؟" ضحك عاليًا فضيق مراد عينيه ومط شفتيه للأمام وبدى وكأنه يستعرض في رأسه كل الأفكار التي يمكن بها قتل إنسان، ثم نهض فجأة ليهرول خلفه فسارع الآخر بالابتعاد جريًا حتى دخل إلى غرفته وأغلق الباب بسرعة فوقف مراد أمام الباب يطرق عليه ويصيح "لو جدع افتح."
"ده لو بقى،" ضحك من الداخل ثم ألقى بجسده على سريره ونظر للسقف ثم دعى الله أن تأتي داليا غدًا.
كان قيس يجلس مع مجموعة من أصدقاءه القدامى في شقة أحدهم، كانوا جميعهم ينتمون إلى نفس الطبقة التي ينتمي لها هو، هؤلاء شلة العربيدة التي كان يتسكع معهم في السابق قبل أن ينشغل بموضوع دكتور مصطفى، آثر الذهاب إليهم مجددًا كي لا يجلس وحيدًا وتنفرد به أفكاره التي تمزقه داخليًا وتجعله في أوج غضبه.
"هتلعب ببرشلونة ولا مين؟" أوقظه صديقه الذي يجلس بجانبه يتجرع من زجاجة البيرة المعلبة فأومأ قيس "ببرشلونة أيوة." ثم جلسا يتنافسان لكن وعلى غير العادة فقد خسر قيس الذي ألقى بجهاز التحكم بعيدًا بعد خسارته وأرجع ظهره إلى الأريكة وهو يشيح بوجهه بعيدًا
"يلا دور تاني عشان شكلي هقطعك النهاردة وهاخد حقي وحق العيال دي كلها منك،" قهقه صديقه عاليًا وضرب كفه بكف صديقهم الآخر فنقى قيس برأسه "لا مش عايز خلاص ماليش نفس ألعب."
عبست ملامح الخمسة الذين يحيطون به في حين نهض أحدهم يضربه على كتفه وهو يضع السيجارة في جانب فمه "طب عمومًا إحنا جايبينلك هدية بمناسبة إنك رجعتلنا وفركشت خطوبتك."
رمقه قيس بدون فهم فسحبه الآخر نحو إحدى الغرف وقبل أن يفهم أي شيء كان قد دفعه لداخل الغرفة وأغلق الباب من الخارج وصاح "جيبنالك نوعك المفضل enjoy."
وقف ينظر نحو الباب بضيق ثم حرك عينيه فوجد فتاة في أواخر العشرينات ذات جسد مكتنز تجلس بقميص نومها الأحمر على السرير.